من النادر أن تجد في الادب حياة صريحة مكشوفة ومدونة كتلك الحياة التي كتبتها اناييس نن في يومياتها ( ونوعا ما في قصصها ورواياتها)
ترجمت الكاتبة الكبيرة لطفية الدليمي مقتطفات من هذه اليوميات الضخمة التي تربو على سبعة او ثمانية مجلدات والتي دام تدوينها قرابة الستين عاما ، منذ كانت في السادسة عشرة من عمرها حتى ماقبل وفاتها بقليل في العام ١٩٧٧ .
في المقدمة الضافية التي قدمت بها السيدة الدليمي للكتاب يمكن للقاريء ان يتفهم الأسباب الموضوعية التي دفعت المترجمة (لانتقاء) مايمكن ترجمته دون الوقوع في محاذير الإسقاطات التي قد تسبب للمترجمة شيئا من الحرج ، فاقتصرت المختارات المترجمة على تناول فترات محتدمة في اوربا تقع بين حوادث الحرب الاهلية الاسبانية والحرب العالمية الثانية وما تلاها وعلاقات الكتاب الأوربيين ببعضهم خلال تلك الحقبة ، وبالرغم من هذا الاجتزاء المبتسر الاَ أنه يعطي صورة عامة لفكر وحياة اناييس نن وعلاقاتها مع مجموعة الكتاب في تلك الحقبة دون الاضطرار لملامسة تلكً الصراحة المكشوفة لعلاقات نن الحميمة مع هنري ميللر تحديدا وما انطوت عليه من بوهيمية كشفت عنها بعض الرسائل التي نشرت وترجمت للعربية .
اناييس نن المولودة في فرنسا من اصول إسبانية كوبية دانماركية من جهة الوالدين والتي تزوجت مبكرا في كوبا من منتج ومخرج هو هيو باركر غويلر وانتقلت الى باريس لتعمل ممثلة في بضعة افلام وراقصة فلامنغو احيانا وتضطر لمراجعة عالم النفس الشهير اوتو رانك الذي يؤثر فيها تأثيرا كبيرا سيترك اثره على مجمل نتاجها المتعدد الجوانب اضافة ليومياتها الأشهر ، في الرواية والقصة القصيرة والنقد الادبي والتنظير الروائي ما يجعلها شاهدة حية على سيرة وادب جيل كامل من كبار الكتاب الأوربيين العظام خلال ثلثي القرن الماضي
لكن علاقتها الملتبسة مع الكاتب هنري ميللر تبقى هي العلامة الأهم في مجمل حياتها .
كان ميللر حين التقته يحيا حياة مدقعة مبعثرة شديدة الضياع ، لدرجة ان يعرض عليه مبلغ مائة دولار لكتابة قصص جنسية لصالح ناشر مجهول فتأبى كرامته الادبية ذلك ليكلف اناييس بالمهمة لحاجته الشديدة للمال فترضى بذلك لاجل أعانته فقط ( يعتقد ان اغلب تلك القصص هي التي نشرت في مجموعتها دلتا فينوس والتي ترجمها للعربية د. علي عبد الامير صالح وأصدرتها دار المدى )
يمكن القول إن اناييس نن هي من لملمت شتات هنري ميللر وساعدته في انجاز وطبع كتبه المهمة كمدار السرطان وربيع اسود من خلال توفير السكن والمال له ،
لم تقتصر رعايتها لميللر وحده فقد شملت عنايتها. انطونان ارتو المصاب بنوبات جنون فعلية وشمل كتابا آخرين أيضا .
وحين تزوجت اناييس مَرّةً ثانية من فنان سينمائي هو روبرت بول ( دون الانفصال عن زوجها الاول ودون علمه ، ظلّتْ مع ارتباطها بالزوجين معا، على ارتباطها الجسدي البوهيمي بهنري ميللر حتى انها تعتقد ان جنينها الوحيد الذي أجهضته هو طفل ميللر !)
القيمة الابداعية لاناييس نن تكمن في ذلك الالتحام الشديد بين أدبها وحياتها ، فاغلب قصص مجموعتها القصصية المترجمة للعربية ( تحت الناقوس الزجاجي ) تتناول سير بشر واحداث عاشتها بنفسها ، وبحسب الحوار الذي الحقته السيدة الدليمي بمختارات يومياتها فانها تصرح بان الفرق بين يومياتها وأعمالها الادبية هي انها تدخل يومياتها في ( معصرة ) الشعر لتغدو بعدها عملا إبداعيا.
وهذا ما يمكن قراءته في عملها المترجم للعربية ( بيت المحرمات ) الذي يبدو كنص شعري متصل يتساءل عبر مونولوج داخلي عن حقيقة الانسان وحقيقة الاخرين
لغة اناييس نن الشاعرية والمكشوفة تختلف كثيرا عن لغة هنري ميللر الوحشية والفضائحية رغم كل الذي يجمعهما من رغبة التعبير عن اصدق ما في احاسيس النفس البشرية دونما اية اقنعة فنية مصطنعة
بالنسبة لي كقارئ اجد ان لقاء ميللر ونن كان يَنبغي له أن يحدث فبدونه رُبّما كنا سنخسر الكثير من روائعهما معا ، واعتقد ان مابينهما يتعدى العلاقة الجسدية البوهيمية الى حب روحي حقيقي. يمكن قراءته في هذا المقطع من رسالة ميللر لها والذي ترجمه اسامة أسبر ونشره في احدى المجلات الادبية :
(لا تنتظري مني أن أكون عاقلاً بعد الآن. لا تقولي : لا ، لنكن عاقليّن ! لقد كان زواجاً في لوفسّيين* - لا يمكنك مجادلة الأمر ، لقد عدت بأجزاء منكِ تلتصق بي ؛ أمشي ، أسبح في محيط من الدم ، دمك الأندّلسي ، مركز و سام. كل شيء أفعله وأقوله وأفكر به يعود بي إلى ذلك الزواج. رأيتك كالعشيقة في منزلك, مُورية* بوجه مجهد عميق, سمراء بجسد أبيض ، أعين على كامل بشرتك ، امرأة ، امرأة ، امرأة. لا يمكنني أن أرى كيف يمكن لي العيش بعيداً عنكِ— هذه الانقطاعات بيننا تعني لي الموت. كيف بدا الأمر لك عندما عاد هيوغو*؟ هل مازلتُ هناك عندها؟ لا استطيع تصورك تتحركين معه كما تتحركين معي ، ساقاك المتشابكتان ، الضعف ، الرقة ، الاذعان الغادر ، انصياع طائر. أنتِ قد أصبحتِ امرأةً معي ، كنتُ مذعوراً بسبب ذلك. لا تبلغين من العمر ثلاثين سنة فقط ـ أنت تبلغين من العمر ألف سنة.
ها أنا قد عدت ، ومازلت احترق بالعاطفة ، كنبيذٍ ينبعث منه الدخان. )
لوفسسيين : منزل في ضاحية باريسية كانا يلتقيان به
موريّة : من المورو ، الأندلسيين. العرب
هيوغو : هو زوج اناييس نن