من بين الأمور التي يتميّز بها العراق هو التعدد الثقافي الذي يلوّن جغرافيته، ومن يقرأ التاريخ سيجد أن شعب ارض العراق (الرافدين) شهد تحولات ثقافية كثيرة وكبيرة عبر مراحل وحقب تاريخية مختلفة، وحضارة وادي الرافدين قبل ظهور الاديان السماوية، الشاهد الأكبر على ذلك، ومن ثم مرحلة ولادة المذاهب الاسلامية على ارض العراق والحوار الثقافي الذي رافق ظهورها، وهو ما تؤكده كتب التاريخ وميادين المعرفة في بغداد والبصرة والكوفة وسامراء وغيرها.
عندما بدأت الأعمال الارهابية التي ألبسها الذين وقفوا وراءها ثوبا طائفيا، بعد العام 2003 بهدف تقسيم العراق، كتبت مادة بعنوان (الشعب العراقي عنيف ام ضحية مسلسل طويل من العنف؟) .. اشرت فيها لتلك المراحل من تاريخ العراق، وتوقفت عند انهيار الدولة العباسية العام 1258 والفوضى العارمة التي عصفت بالمنطقة بعدها، لكن ما حصل لشعب العراق كان مثيرا حقا، اذ اصبحت بغداد ميدانا لصراع الأقوياء للاستيلاء عليها لما لها من رمزية، وقد خلف هذا الصراع مجازر مروعة ، كان ضحيتها الشعب العراقي الذي استمر لقرون، ممزقا مسروقا ومقصيا عن اسباب التعليم والصحة والخدمات الاساسية الأخرى ..
مرّة قال لي صديق (مسيحي) من اهالي الموصل إن له اعماما هناك من المسلمين، يلتقون كأرومة واحدة في المناسبات الاجتماعية، ولكل منهم ديانته، فذكرني هذا بما نحن عليه في محافظة ميسان، حيث تجد هناك الصابئي (المندائي) واليهودي (قبل هجرتهم) التي حصلت على خلفية لعبة معروفة، وكذلك تجد المسيحي الى جوار المسلم من المذهبين، وقد فتحت عيني على الحياة هناك ووجدت أن لنا كعائلة مسلمة عوائل صديقة من الصابئة، وما زلنا نتواصل معهم في المناسبات الاجتماعية ويتابع بعضنا احوال البعض الآخر ..
هذا التعايش القديم تكرّس على ارض العراق عبر التاريخ، اذ كلما حصل تحول ثقافي – ديني بفعل عوامل موضوعية كثيرة، يبقى من يريد البقاء على ثقافته او ديانته القديمة وايضا هناك من يتفاعل مع الجديد، وهكذا اصبح العراق بلد تتجاور فيه الثقافات والأديان وتتعايش، فالطفل يفتح عينيه في العراق ويجد بين اترابه من ابناء الجوار من هم على دين او طائفة مختلفة فينشأ على هذا ويراه طبيعيا، لأن ولادة هذه الثقافات كانت طبيعية ايضا وحصلت على خلفية حراك ثقافي تاريخي طويل، ولم تأت عن طريق الغزو الخارجي والقهر.. بعد ان كبرت شغلني هذا الامر كثيرا كونه يستحق التأمل والقراءة، لاسيما بعد ان عرفت ان العراق لم يشهد مصادمات بين ابنائه على اسس دينية او طائفية، وان الناس البسطاء قبل المتعلمين ومن جميع الاديان والطوائف لم يعرفوا ثقافة العنف ولم يمارسوها ضد بعضهم، وان التعايش السلمي والاحترام المتبادل ظل سائدا بينهم منذ آلاف السنين ومازال، وقد توقفت على تلك الخلاصة المتمثلة بالتجاور الثقافي وقوة ميادين الثقافة وصناعتها للنخب فيه من خلال قراءتي للكثير من المصادر المهمة التي اوصلتني الى هذه الحقيقة.
لهذا السبب خاب فأل الذين راهنوا على تفتيت العراق وتقسيمه بعد العام 2003، على الرغم من كل ما فعلوه، لانهم لم يعرفوا قوة نسيجه المجتمعي وعمقه، وان الذين زاروا العراق مؤخرا من عرب واجانب، ادهشهم ما رأوه من حياة طبيعية وتعايش وانسجام مجتمعي خلافا لما يروج له الاعلام المغرض، وان الكثيرين من المثقفين الذين اتوا للمشاركة في فعاليات ومهرجانات ثقافية، عادوا وهم يحملون انطباعا مختلفا عما يروج له الاعلام الذي اراد ان يقفز على حقائق التاريخ ليصنع للعراقيين حاضرا زائفا لايمثلهم ولايعكس تاريخهم!
عبد الأمير المجر ـ مجلة الأديب العراقي