أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل
أنفض الجمع.. وتفرق المعزون، وذهب كل الى سبيله، وعدت أسأل نفسي .. بعد كل هذه الـ (40) سنة التي قضيتها مع هذه الإنسانة العظيمة .. زوجتي الوفية أنا إبراهيم خليل العلاف وأم أولادي نشوان ولمى وهبة وهشام .. الحاجة المربية السيدة لطفية طه محمد عبد الرحمن العبيدي .. ما الذي حصل؟ وكيف انتهت هذه السنوات .. وأصبح كل منا في واد .. كيف عشنا الحياة بحلوها ومرها .. ثم كيف تحملنا ما تحملنا من مصاعب الدنيا، ومشاكل العيش .. أتذكر أنني قلت لها قبل بضع سنين .. وعندما انصرف أولادنا، بنين وبنات، الى حياتهم الخاصة المستقلة .. وكان ذلك بإرادتنا .. يا حاجة لنبدأ من حيث انتهينا .. لنبدأ يا أم نشوان .. من جديد مسيرة الحياة، كما كنا نحلم بها من قبل، حيث لا هموم ولا مشاكل ولا التزامات تجاه الآخرين. ولكن الموت .. وهو حق علينا جميعاً .. جاء ليبدد الحلم وليضع حداً لأمنياتنا تلك .. ربنا لا اعتراض على حكمك .. " ولكل أجل كتاب" ، " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" صدق الله العظيم .
في ليلة الخميس على الجمعة الـ (27) من رجب 1428 هـ، العاشر من آب 2007 توقف قلبها الضعيف عن النبض .. لقد خذلها قلبها، أو إنها أصيبت، كما كان يقول الأستاذ الدكتور مصطفى جواد رحمه الله، بخذلان القلب .. ولم تعد تقوى على المواصلة، فتسارعنا وتسارع الأخوة والأخوات والأبناء والأصدقاء والمحبين ليشاركوننا في إيصالها الى دار حقها .. وتمت الصلاة على روحها الطاهرة في جامع ذو النورين عقب انتهاء صلاة الجمعة .. وأحسب أن لا أحدا في الجامع قد تأخر عن الصلاة عليها، أو خرج من الجامع ..
لقد رأيت المئات من الأيدي تمتد، بتزاحم شديد لكي ترفع جثمانها .. بعد الصلاة .. وعلى قبرها في مدفن الكرامة ، أطلق أخي العزيز الشيخ الفاضل أبو معاذ (الشيخ نافع عبد الله ) حفظه الله وأعطاه الصحة والإيمان، دعاءه في تأبينها، وكان مما ركز عليه أنها كانت إنسانة مؤمنة، تقية، صابرة، معطاءة .. تحملت مسؤوليتها في الحياة بكل شجاعة .. كانت مربية ناجحة، عملت في حقل التعليم أكثر من (28) عاماً، وتنقلت بين مدارس سره رش وصلاح الدين، والحدباء، ودجلة، والقاضية، وأخيراً في الشهباء في حي النور .. وكم كانت سعادة أحد الأخوان .. وهو ينقل لي ما سمعه، بأننا ونحن نخرج من الجامع متوجهين الى المقبرة، قد عرف أن العديد من تلاميذها، وقد أصبحوا رجالاً، أصروا على المشاركة في دفنها وفاءً منهم لما بذلته من جهود في تعليمهم وإعدادهم. وللتأريخ فإنني أحتفظ بالكثير من تقارير المشرفين التربويين عن ادائها التعليمي والتربوي وأقتبس الآن من واحد من هذه التقارير والذي يعود للعام الدراسي 1982-1983 وجاء فيه بالنص أنها: " معلمة لها رغبة وقابلية على تدريس المواد الاجتماعية، نشيطة لها قدرة على التتبع والنمو في ميدان اختصاصها، تحفز التلميذات على التفكير، وتهتم بالتربية الدينية والوطنية والقومية والاخلاقية، تتبع طريقة الحوار والمناقشة في عرض المادة، تعمل على ربط المادة بحياة التلميذات وبيئتهن، تهتم بتصحيح الخرائط، وتعود التلميذات على الرسم المتقن ووضع المدن والأنهار والحدود على مواقعها الصحيحة" .
قلت لأبي معاذ إنها ماتت، رحمها الله، واقفة .. ماتت بدون سابق إنذار، كانت تدعو من الله صباحاً ومساءً أن يميتها هكذا .. دون أن تثقل على أحد .. وأضفت: لقد كان لها 70% من الجهد تجاه البيت والأولاد، ولم يكن لي سوى الـ 30%.. ولدين طبيبين وبنت طبيبة (تدريسية في كلية الطب) ومهندسة في الكلية التقنية .. فضلا عن رعايتها لإخوانها وأخواتها، عندما كانوا صغاراً وفقدوا أمهم قبل سنوات، ناهيك عن المئات من التلاميذ والتلميذات الذين رعتهم طيلة سنين خدمتها في التعليم .. تلك كانت حصيلتها .. وذلك كان إنتاجها .
كانت تقرأ القرآن الكريم، أكثر من مرة في اليوم .. وكانت تستيقظ فجراً لتؤدي صلاة التهجد وقرأن الفجر كان مشهوداً .. تتساءل في اللحظات الأخيرة، وهي فرحة، متى يأتي رمضان؟ هل نستطيع أداء العمرة بعد أن يسر الله لنا أداء فريضة الحج قبل سنوات.
أم نشوان .. نامي قريرة العين .. ها، وقد غادرت هذه الدنيا الفانية، لكنني لا أزال أراك حية .. فلقد تركت الولد الصالح الذي يدعو لك .. كما تركت الكثير من أعمال الخير والتي لا يعرفها إلاّ الله .. كنت تؤكدين أن العطاء شجاعة .. سألتك مرة وأنت تعطين ما ييسره الله لك من مال ومواد عينية .. هل تحسين بالسعادة .. قلت نعم إنني أنتظر الفرصة لكي أقدم لأخواتي، وأخواني وهم يقصدونني، وأحزن عندما يتأخرون في موعد مجيئهم .. لم تكن زخارف الدنيا تهمك .. ولا أتذكر أنك شكوت لأحد .. مع أنك أصبت ببعض امراض العصر كالسكري .. فالشكوى، كما كنت ترددين، لغير الله مذلة.. لقد تحملت الالم بصبر .. كان بعض الأخوان يتعجب من انصرافي للكتابة والتأليف والعمل ويقول أين لك الوقت والفرصة .. وأقول لهم .. إن الراحلة العزيزة هي من كانت وراء ذلك .. كانت تخفف عني وتحرص على عدم إشغالي بأمور يومية، تتحملها وحدها .. رحمك الله ورضي الله عنك يا أم نشوان .. وعزائي إنني أراك في كل زاوية من زوايا حياتي .. وحياة أولادي وبناتي وجيراني ومعارفي ومعارفك من الأخوة والأخوات والأقارب .. ومثلما قال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، الكاتب المصري المعروف عندما فقد زوجته "إن قلبي يفيض دموعا" .ومن المؤكد إن الزمن لن يستطيع أن يمحو ذكريات عيشتنا المشتركة والعزيزة.
لقد رحلت عن دنيانا الفانية والمتعبة هذه ..وذهبت الى دار الحق والبقاء .. إنها والله خير وأبقى وكل ما يمكن أن نفعله هو أن نترحم عليك وندعو الله عز وجل أن يتغمدك برحمته الواسعة كما يجب أن نتذكرك ونذكرك، ونتمثل بالقيم والمبادئ التي كنت تحملينها .. وليس من شيمتنا كمسلمين مؤمنين أن نتفجع، ونشق الجيوب، ونلطم الخدود، بل نسير على هدى رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم .. عندما قال بعيد وفاة ابنه إبراهيم : " إن العين تدمع، وإن القلب يحزن، وأنا عليك يا إبراهيم لمحزونون " ، ويقيناً إن ذكرك لسوف يبقى ويتردد في أصداء بيتنا المتواضع ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال :
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثان
*فصل من كتاب الدكتور إبراهيم العلاف، نساء عراقيات، دار ماشكي للطباعة والنشر والتوزيع، الموصل، 2022، الصفحات 87-89
**صورة المرحومة الأستاذة لطفية طه محمد عبد الرحمن العبيدي مع ابنتها هبة أمام قلعة حلب 2006 رحمهما الله وطيب ثراهما