منذ فطرتها الاولى تجتهد حواء او بالأحرى تُبرمج لتكون اماً في المستقبل ،فتراها في سني عمرها الاولى تقتني الدمى وتخيط لها الملابس وتجمع الالعاب التي تخص المطبخ من اوانٍ وادوات مؤسسةً اسرتها الافتراضية من الدمى ، وقد يشاركنها اخواتها في البيت او قريباتها او صديقاتها لتلعب دور الام في لعبة"بيت ابو بيوت"،فينشأ موضوع الامومة لديها منذ الصغر ويتبلور كتحصيل حاصل لموضوع الانثى التي خُلقت لتكون أمّاً..
وبعد ان تكبر وتتزوج وتؤسس اسرتها تقوم بوضع كل مااختزنته في سني حياتها الاولى وتضيف عليه من من روحها وطاقتها وراحتها وتكرس جهودها في بناء الاسرة،بل وتتفانى وتستبسل متناسية نفسها وحقوقها كأنثى، وتلجأ بعض الفتيات الى ترك الدراسة او العمل مرغمةً او طائعةً للتفرغ لأسرتها واولادها..
وتمر السنوات وهي في الدوامة نفسها لاتدع دقيقة تمر إلاّ وقد استثمرتها للعناية باسرتها باذلة الغالي والنفيس لتجد نفسها على اعتاب ومشارف الاربعين او الخمسين وقد ادت واجبها على اتم وجه وخرّجت ابناءها وزوّجتهم وكلّ ذهب الى مآله بعد ان استقل بحياته في بيت مستقل حسب النمط الجديد للحياة وهو الاستقلال عن الاسرة الام ،او السفر خارجا لإيجاد حياة اكثر رفاهية وهكذا، ولكن ماذا عن الابوين اللذين بقيا في البيت مع الجدران والصور والذكريات!
اما مسألة الاب فهي محسومة ، فما ان يرى زوجته المنهكة التي تركت الحياة خطوطها واضحة على وجهها وشعرها حتى يتوجه ليجد زوجة أخرى اكثر شبابا لتعيد الربيع الى خريفه ليتصابى من جديد!
او انه يجد متعته مع صديق يبادله اطراف الحديث في مقهى او مكان عام لقتل الوقت،او انه يعتكف بالبيت يعد عليها انفاسها متدخلا بكل صغيرة وكبيرة ،يناقش كل الامور حتى امور المطبخ! اما هي فتجد الآن متسعا من الوقت لتقف امام المراة طويلا لترى ان الخريف قد ترك بصمته وخطوطه على وجهها وشعرها المشوب ببياض الشتاء،تقف مندهشة كيف كانت وكيف اصبحت بعد السنين!
كيف غزا الابيض غابات شعرها،كانت تحب الابيض كثيرا واليوم باتت تمقته كثيرا،اين شبابها! اين ربيعها!كيف قضت السنين وتسربت الايام من بين اصابع عمرها الذي لم تفقه منه شيئا،وماهذه الارقام المرعبة التي وصلتها!ام هي مجرد ارقام لعدد السنين التي لم تحيها،بل كانت تعيشها فقط لاهثةً راكضةً،تتمنى ان يكون اليوم خمسة وعشرون ساعة بدل اربعة وعشرون،لتستطيع انجاز مهامها ومتطلبات بيتها واسرتها، ملابس اطفالها المكوية والمنظمة في الدواليب،اسرّتهم المرتبة وغرف نومهم الانيقة،طعامهم الذي تتفنن بتنويعه كل حسب رغبته،طريقة ترتيب السفرة،انواع السلطات،تهييء كل شيء قبل عودتهم من المدارس،تشعر بالمتعة والشبع وهم يأكلون بشهية نظراتها تتنقل بينهم وهي مبتسمة،اصواتهم،ضحكاتهم التي تملأ حياتها،قيلولتهم،كل ذلك الحلم،نعم صار حلما بعد ان افرغت مافي جعبتها وكل ذهب الى ضالته..
كانت تحدث نفسها وتسمع صدى صوتها من داخلها يجيب،وتعاود السؤال وتسمع اجابة مغايرة تضطر ان تداخلها!هل كنت اركض لكي ابقى وحيدة بين الصور والجدران!
كانت تخرج ملابسهم كل موسم فترى انها قد صغرت فتشعر بالفرحة لأن ابنها او بنتها قد ازدادا طوله او طولها بضعة سنتيمترات فتغمرها الفرحة عندما يبدأ شارب ابنها المراهق بالتلويح ، او عندما يحلق لحيته لأول مرة، وابنتها التي بلغت وبدات تسألها عن نوع مغاير من الملابس تلائم انوثتها..
لم تدرك أنها تشطب الايام من التقويم لاهثة ساعية الى وحدتها مع زوج حاضرغائب وجدران تسمع ولاتجيب ، ويبقى عزاؤها الوحيد انها خرجت بموهبة ما تقضيها لتقتل الوقت كي لا يقتلها ، الوقت الذي بدت ساعاته كسيحة وفصوله باردة ورتيبة،فلابد ان تصنع لها عالما خاصا وان كان افتراضيا،وعليها ان تبدأ من جديد كانخراطها في جمعية خيرية، اوممارسة هواية ما، او الاستماع الى محاضرات التنمية البشرية لسد الفراغ الذي فرضته عليها طبيعة الحياة..