ما إن وصلني كتاب الصديق شاكر الناصري "مجرد وقت وسيمضي" بالبريد، حتى وجدت يدي تمتد إليه مسرعة، وكأنها كانت تنتظره قبلي. راحت أصابعي أولاً تتلمّس نعومة غلاف الكتاب، حتى تركتُها، دون توجيه مني، تمرّ برفق وخشوع جمّ على حروف العنوان المُشَكّلة بعناية. صارت تُكرّر مرورها ودورانها، وتتنقّل بين الكلمات لأكثر من مرة، وكأنها تتحدّث معها، تقرؤها وتسمع.فتحتُ الكتاب، لأجد كلمات صديقي شاكر الناصري يقول فيها لي:
"هذا الكتاب رحلة ما بين الألم ومواجع السرطان والسمّ الكيمياوي، وبين ما يتقافز من الذاكرة ومن سنوات حياتي. هذا كتاب ليس للمتعة أبداً، بل رحلة الألم والذعر الذي عشته بكلّ تفاصيله."
عندما أخبرته أن كتابه وصل، وكم انتظرته بشغف، قال لي إنه سعيد بأن يكون كتابه بين يدي. ذكر أن قلّة من الناس سيتمكنون من إكمال قراءة الكتاب، وتأمّل أن أكون منهم.بدأتُ أقرأ، حيث يفتتح السرد أوجاعه مع رعب الاحتمالات. يقول الناصري في أول يوم من يومياته، في 22 تشرين الأول 2023:
"لا شيء أسوأ وأبشع من أن تصبح حياة الإنسان رهينة الاحتمالات والشكوك التي لا يمكن تصورها، وبالتالي لا يمكن احتمالها، إلّا إذا كُتب لهذا الإنسان حياة جديدة، أو كان قويّاً، أو محظوظاً..."
يرجع بذاكرته إلى تلك الاحتمالات المرعبة التي مرّت بحياته وحياة رفاقه وأقرانه الذين لم يكن لهم حظّ سوى السيّئ منه، "الذين طحنتهم وقائع المحرقة العراقية، وأحالتهم إلى رماد".ثم يعود بوقع الاحتمالات إلى ما بين الـ"ربما" والـ"أو"، وقلق انتظار نتائج الفحوصات، وحقيقة لا مفرّ منها، تؤكد أو تنفي إصابته بورم سرطاني خطير. أخذته ذاكرته إلى سنواته التي عاشها سابقًا في ظل الحرب وكوابيسها المزمنة، واحتمالات الموت والأسر، أو الفقدان، فقدان أجزاء من الجسد.يفكر في عدوّ لا يرحم صار داخل الجسد، يسمّيه "لغم"؛ لغم مزروع في المعدة. معركته حقيقية إذاً وشرسة...يبدأ شاكر الناصري، في اللحظة التي يعرف فيها بإصابته بالسرطان، باستعادة شريط حياته، باحثًا عن لحظات فرح وسعادة رغم ندرتها كما يقول، يتمسك بها كي تعينه على اجتياز رحلة العلاج المضنية، التي ستكون بالعلاج الكيمياوي أولًا – السمّ الكيمياوي كما يسمّيه – مروراً بالعملية الجراحية الكبرى، ثم العودة للعلاج الكيمياوي مرة أخرى؛ رحلة محفوفة بالخوف والغموض والقلق، سيتدرّج في رواية تفاصيلها المثقلة بالأحمال والآلام والضعف والوجع.كان يبحث في تاريخه الحافل بالنضال السياسي، والكفاح من أجل الإنسان والحريات، والحقّ في بناء حياة كريمة يعيشها جميع البشر بعدل وهناء، ليجد نفسه أمام تساؤل: ما جدوى كل حياتي وتاريخي ذاك أمام وقع ما أنا فيه الآن؟ يبحث عن شيء مختلف ربما، عمّا يتخذه درعاً في معركته مع السرطان، التي سوف يخوضها ليس بمفرده، بل مع عائلته: زوجته ابتهال، ابنته ديار، ابنه طيف، وأصدقائه.تظهر ابتهال مرتدية اللون الخاكي بينما يتهيّأون للذهاب إلى المستشفى، فينظر شاكر إليها بعينٍ محتارة تسأل بلحظها، وبصمت يشوبه القلق، فتجيبه في الحال بعبارة: "سنُحارب!" وهكذا في كل مرة، كانت ابتهال تقول: سنحارب، وسننجح، ونهزم السرطان. لم تتركه ولا لحظة دون أن تكون بجانبه.ستُحارب العائلة بأكملها والأصدقاء معه.
يسرد الناصري تفاصيل المعركة ودور كلّ واحدٍ منهم بامتنانٍ ومحبّة كبيرة. لم ينسَ المستشفى والطاقم الطبي، الأطباء والممرضات، فقد كان لهم نصيب كبير من ذلك الامتنان والعرفان.وعلى الرغم من الآلام ومرارة وجع العافية، وتعب الجسد والنفس والروح... كان للأصدقاء حضور دافئ في السرد، وكذلك العائلة، والأخت الكبرى شكرية. حضورٌ لم يكن عابرًا، بل كان "شدّ الحيل"، والسند الحقيقي في حربٍ شرسة لا تُخاض إلّا بمحاربين، يكون الكل فيها واحدًا.في النصّ روحٌ سامية تأسر القارئ، تحلّق في فضاء الكلمات والحروف. تلك الروح العظيمة التي لا تشعرك إلّا بقوّتها، فهي لا تنكسر ولا تنطفئ، وحين تتحدث بين السطور، تجدها محمّلة بكثافة إنسانية عالية، يمتزج فيها الصمت بالأنين، والألم بالوعي، والخوف بالأمل والرغبة في الحياة.ديار، ابنته الحنونة، بابتسامتها ودموعها التي تشبه والدته علاهن، يقول إنها نسخة منها ومن مشاعرها ودموعها وفرحها. لمستها الحانية على وجهه، ويدها التي أشعرته بلمسة يد أمه، ذكّرته بعبارتها المحبوبة: "بعد روحي يمّه".أما ابنه طيف، الذي تفرّغ بشكل كامل له، يذكر الناصري أنه كان يرافقه عندما يخرج للمشي في مدينتهم. يقول عنه:
"عندما كان يشاهدني وأنا محنيّ الظهر، ومطأطئ الرأس، وأنظر في الأرض كمن يبحث عن شيء ثمين أضاعه، كان يضع يده على ظهري لكي يقومه، ويرفع رأسي حتى أنظر إلى الأمام. وعندما أشعر بتعبٍ شديد، وكأنني فقدت كل طاقتي، كان يجلس بجانبي، فأضع رأسي على صدره، وكأنني أستمدّ منه طاقتي التي فقدتها، وأشعر بالملاذ الذي يشعرني بأنني لست وحدي."
قرأتُ تفاصيل المعركة التي ما زالت قائمة إلى حدّ اللحظة، إذ إنها لم تنتهِ بعد. وتوقفتُ مراراً للتأمل بصمتٍ حائر، وكم تعثرت جوارحي بمواقف صادمة حملتني لأن أذرف الدموع، ليس عطفاً، بل فيضاناً من العاطفة والمشاعر. ارتجّ ذهني، وخفق قلبي مرّات، وأخذت يدَي ترتجفان بينما أقلب الصفحات. أحيانًا كانت القراءة تحبس أنفاسي، كنتُ أنسى أن أتنفس.
أعترف أنّ قراءة الكتاب لم تكن سهلة، بل موجعة جدّاً. تجربة لا تشبه أي قراءة أخرى. هي ليست نصّاً سرديّاً عاديّاً يُقرأ والسلام، بل يُعاش. فهو يسحبك إلى قلب المعركة، لتصبح شريكًا في المعاناة والترقّب والخوف والألم والرجاء والأمل... قراءة تعيد تشكيل فهمنا للحياة، وإدراك هشاشتنا وضعفنا، بالأخص حين يكتب الكاتب بلغة شفّافة نقية لا تصطنع البطولة، ولا تستجدي العطف والشفقة، بل تطرح تجربة إنسانية نبيلة ثرية تُقدّر اللحظة التي وُلدت فيها، وتكشف عن عمقٍ جليل للذات وللإنسان.هكذا خرجت لنا يوميات شاكر الناصري متماسكة، بليغة في معانيها، مليئة بالدهشة، حيث الصمت يتحدّث كما في لحظات البوح المُعلَن. إنها تجربة تعلن عن الألم والرجاء، حين يُجبَر الإنسان على خوض معركة ليس له خيار فيها سوى المواجهة، وملامسة حدود وجوده من عمق الوجع.
"مجرد وقت وسيمضي – يوميات السرطان"، كتاب لتجربة إنسانية غاية في النبل. كتاب لا يُقرأ بالعين وحسب، بل بالقلب. ستقف عند كلّ سطر لتعيد قراءته، عند كلّ كلمة تسحبك إلى عمق معانيها، عند كلّ صرخة ألم وصمت أنين، تتعلم كيف تسأل، لا أن تجيب، عن معنى الحياة، العمر، التاريخ، الحزن والفرح، القوة والضعف، الانكسار والأمل والانتصار، الوقت وما الذي يعنيه، عن الصداقة والأصدقاء، المشاعر والحنين، عن العائلة والحبّ والأثر.
تحيّة كبيرة ومحبّة هائلة، صديقي العزيز شاكر، لتكن أنت ذلك الإنسان الذي تحدّثتَ عنه، المنتصر على كل الاحتمالات. ولتُكتب لك حياة جديدة، قويًّا غير مرتهن بالاحتمالات، محظوظًا محفوظًا وأكثر... شكرًا كبيرة لك بحجم الكون، لشجاعتك المتناهية، وأنت تحارب في أشرس وأنبل معركة، فيما تكتب لنا رواية حربك في سطورٍ نقية رائعة، من عمق الألم والأمل...