قصائد لحبيبات مجهولات... الحزن الذي صار أغنية / ابتهال بليبل
قصائد لحبيبات مجهولات... الحزن الذي صار أغنية / ابتهال بليبل
04 May
04May
مشرقات / خاص :
إذا حاولت تكرار عملية الاستماع لأغنية لأكثر من مرّة دون معرفة السبب، فثق أنّ كلمات قصيدتها قد اختلست موقفاً أو استرجعت ذكرى بعيدة في غفلة منك.. هكذا تبدو بعض القصائد المغناة، لا تعرف حدوداً أو نهاية لما تسرب من تفاصيل قلبك وروحك وعقلك في زمن سالف. إنك لو تمعنت ببعض القصائد المغناة سيخالجك الشعور بأن التي ظلت عالقة في رأسك طوال اليوم تختزن الكثير منك، ترافق كلماتها بعضك الآخر إلى طابور نسيانك.. تسألك الرجوع الذي لا بداية له. الأكثر صراحة.. أن بعض هذه القصائد تحدّق فيك بشماتة كاتبها الذي لم يجد ما يقنعه ليصّير حياته بكلمات وجدت طريقها في حياة أخرى، لم يفكر في أن سماعك المتواصل لها سيحشرك في زاوية ويعصف بكلك مثله. إنّ ما اريد التأكيد عليه هنا هو تلك الأغاني التي في كلمات قصائدها من رؤيا تكوين الذات السرية. والحقيقة أنك ستجد ذكرياتك وقد أصبحت في وضعٍ مختلف. فقد أهملتها أو ربما نسيتها لسنوات عديدة، ثم بدت لك فجأة وكأنها تتملص وتقفز الحاجز الذي يفصل النسيان عن زمنك هذا، وهكذا تنكب على ذاتك بتلك اللحظة الماضية أو المرحلة السابقة التي كنّت قد اعتقدت بأنها هامشية. فكان أن ألمّت بك بشيء من الحنين، وربما الحزن. إنني الآن أريد أن أعرف سرّ تأثير كلمات قصيدة أحمد رامي "جددت حبك ليه بعد الفؤاد مارتاح " المغناة بصوت أم كلثوم. وألحان رياض السنباطي؟ ، الاغنية التي تبرهن كلّما استمعت لها عن فعاليتها في اختراق ذاتي. ثمّة قصائد كثيرة من هذا النمط في أغاني أم كلثوم، وهي تكشف عن ذاكرة مخبأة. وهذه الذاكرة تنتظر كواحدة من اسرار ذاتك للظهور. شعورٌ لا يقتصر على الحنين أو الحزن عند استحضارها، بل تتعدّاه إلى أنّك قد تهزّ رأسك بندم من لم يحتفظ بها. هذه الذات التي هجرها الشاعر بعد أن أختار أن تصير أسيرة لقصيدة كلماتها ليست عارية منه فقط بل ومن العشاق كلهم... ولكن ماذا يحدث لي عند الاستماع إليها؟، اراها وكأنما تحدق بدهشة معاتب تقمص كلمات تكاد أن تكون بنبرة مختلفة تماماً عن غيرها الكثيرات. ويمكن أن نتساءل الآن عما إذا كان يمكن لبعض القصائد المغناة معايير تدفعني لهذا الانسجام. فكلماتها ليست أبداً غريبة أو جديدة يمكن أنّ تميز نفسها، فلماذا هذا التناغم الرومانسي في كلّ وقت الاستماع ؟. إنه لمن الغريب أن أخبركم بشعوري بمعاناة الشاعر وألمه عند كتابتها. هذا الشاعر لا علاقة له بالتأويل الذي يلجأ إليه كثير من شعراء اليوم. كلماته الجارحة لذاتي تثير اهتمامي، وتدفعني للتفكير في الكلمات التي يعرّف كيف تحرر نفسه من سطوة لا تخضع ألاّ لكائن قد تخلّى عنه إلى حدّ أن ترك عاهة مستديمة بداخله. وهو بعاهته هذه يخبرك أن من كان بين احضانك ليس ذاته الآن. والحقيقة أنّ سؤاله "جددت حبك ليه؟" يعرّضك لموقف كان لها كثير الأثر على مشاعرك في حياتك. حتى اليوم، ما تزال هناك الكثير من القصائد المغناة مثل قصيدة حسين السيد " في يوم وليلة " بصوت المطربة وردة، وقصيدة كامل الشناوي " لا تكذبي " بصوت نجاة الصغيرة وكذلك بصوت عبد الحليم حافظ، وغيرها الكثير من القصائد التي تمارس سطوة الألم بالمعنى التقليديّ لعشق وهيام كانا يتقمصان ذواتنا وأثبتت الأيام زيفهما أو أوهامنا. ثمّة حقيقة، ينبغي ألاّ نتغافل عنها، وهي أنّ القصائد المغناة التي تتمتع بهذا الكم الهائل من الضغوط الحسية المؤثرة بذاكرتنا قد كتبت لنساء مجهولات. وبالطبع، قصائد لوحيدات خلدتهن ذاكرة العشق. ربما بالفعل إنها كتبت لنساء مجهولات – ولكن لماذا؟ لأننا نشعر بقوة روحية هذه القصائد، تحديداً بالمشاعر التي يقدّمها العاشق عند وصف تجربته التي ترتبط أساساً بالمرأة محبوبته المجهولة. قد نكتشف، إن ما يكتب من هذه القصائد يكمن دورها بغير الاعتراف بفعل المعشوقة. بقدر أنها مرتبطة بالنتيجة. السؤال الذي سيطرح نفسه الآن هو لماذا مجهولات ؟. لكن، قبل الإجابة، علينا ألاّ نخرج من الواقع وثقافتنا المجتمعية لقوة ارتباطها بوعينا. المعشوقة التي تقدمها القصيدة هنا، تثير في رأسي بعض الافكار التي قد تبدو غامضة للكثير من النساء. لأنهن لا ينظرن لعشق المرأة بوضوح، إذ تعتقد الواحدة منهن أن فعل العشق لا ينتمي لذاتها. كما وتشعر الكثير منهن أن رغبتهن في هذا الفعل ترتبط بمفاهيم وتأويلات إيروسية. لذا فإن فعل العشق ليس هو ما يكتب في القصائد المغناة التي تمارس ضغوطاً، بل في نتائج هذا الفعل. لنعلم السبب في بقائهن مجهولات في قصائد الوجد والشوق. ولكن يخطر ببالي أن المرأة التي تدفع هذا الشاعر ليكتب قصيدة مغناة بهذه الشهرة والتأثر نموذجاً للتي من شأنها أن تكون مخيفة لما تتوافر بشخصيتها من قيم باذخة ومثيرة ومغرية لتستنطق كل ما تعجز القصائد المغناة عن تذكره أو تخيله لتبقى هكذا مجهولة رغم شهرتها الواسعة. يمكن لنا أن نلقي الضوء الآن على أجواء هذه الأغاني من خلال النظر إلى تعامل المطرب أو المغني مع من حوله بالمستوى الصوتي أو الحركي. وكما سبق لنا القول، أن بعض هذه القصائد تجارب قد دونها أصحابها لنساء مجهولات. فإن هناك " كليبات أغنيات لأفلام " تستحق أن نعرج عليها بوصفها مثالية في ادوارها. فمن يركز على نظرات فاتن حمامة لفريد الأطرش في اغنية " جميل جمال "، يكتشف علاقة حب من النوع ذاته الذي تظهره بعض القصائد المغناة. إذ تجعلك حركات هذه المرأة – فاتن حمامة – ونظراتها الهائمة تركض في عمق ذاكرتك بحثاً عن المنسي منها. وقد تلفت انتباهك إلى اللغز من حبك لكائن ما دون غيره ، ويذكرك بمقولة سان أوغسطين - نُحب أنّ نُحب، لكننا نحب أيضاَ أن يُحبّنا الآخر – سلوك فاتن حمامة ونظراتها التي قد تبدو لوهلة مضمرة الهدف، إذ تشعر في لحظات بنشوة غريبة وبحزن وكآبة بلحظات غيرها... ولكن بالمجمل ستدفعه دون وعي إلى تشكيل بعض الصور الذهنية التي من الممكن أن تتحكم بذاته، ويحاول التعبير عنها بسلوكيات تبدو مزدوجة ومألوفة، بمعنى أنها تشبه تلك التي تظهرها فاتن حمامة تجاه حبيبها. ومن هنا فإنك ستنفي شخوص وقصيدة هذه الأغنية رغم اقترابها منك وتقييدها المحكم لأعماق ذاكرتك السرية... ستكتفي بتجربتك المشابهة لدورها لحسم الموقف. كما أن حضور هذه الأغنية لن يتعدى من كونه إشارة للتندر بقدرة عشقك المجازية على تأطير علاقتك مع الحبيب بقيم لا تقاوم اندماجك الوجودي بذاته.