04 Apr
04Apr

مشرقات / خاص :


كثيرة هي الاعمال الادبية التي تناولت حرية المرأة ، لكن اغلبها علق في الفهم الانفعالي للحرية. فجاءت غير كاشفة لأعماق المرأة وتوقها للخلاص من رحلة العبودية التي فرضتها الهيمنة الذكورية .. الحرية لاتعني الانفلات، بل احترام الخيارات الخاصة، والمرأة في هذا الجانب معاناتها مزدوجة، لأنها تجاهد من اجل ان تقنع الرجل بهذا المبدأ، ومن ثم تحويل هذا الخيار الى نشاط انساني، يجعلها اكثر فاعلية في محيطها، ومن هنا فإن نضالها مركب، ويتطلب ايضا وعيا مركبا، من قبلها من جهة ومن قبل الرجل من جهة اخرى .. 

رواية (صوت خافت جدا) للروائي سعد سعيد، جاءت في سياق هذه المعالجة، حيث اشتغل الروائي على اعلاء الصوت الداخلي للمرأة ليطلق صرختها من خلال سيرة شقيقتين من عائلة فقيرة (سفانة وسلوى) .. سفانة تحمل جذوة الحرية في داخلها، لكنها تصطدم بمكبلات الواقع الاجتماعي الذي يقمعها، اذ تتعرض ، وهي تكافح من اجل لقمة العيش ، الى محاولات التحرش، لكنها تبقى تقاوم بعد ان تلتقي طبيبا (فارس) الذي يتعاطف معها انسانيا من دون ان يبادلها الحب، تلتقيه مصادفة في شارع المتنبي، وتعمل سكرتيرة له .. شقيقتها سلوى ، وتحت ضغط الحاجة تبيع جسدها بغية الحصول على المال، فتعمل على انتشالها من هذا المنزلق لتنتصر لإنسانيتها وتنقذها من الابتذال، لتعيش بسببها معاناة أخرى .. 

تسير احداث الرواية بخطوط متعددة، تلتقي عند بؤرة واحدة، هي حلم الخلاص من واقع يكرس قسوته على الشقيقتين ، لاسيما في زمن الجوع ومن ثم الاحتلال ، الذي زعزع منظومة القيم .. يقدم سعد سعيد نموذجا من البشر يعيش بيننا (عماد) الذي لايتورع عن التشهير بالنساء ممن يتعرف اليهن ، ويبعث بصورهن الى الآخرين . هذا النموذج المنحط يأخذ بعدا رمزيا في الرواية، يوازيه خط آخر، يتمثل بشخصية (فضيلة)، صديقة سفانة، التي يكون حضورها في الرواية استدعائيا، أي انها غير موجودة، كونها قتلت من قبل على يد شقيقها (غسلا للعار)، وتحضر في ضمير سفانة واخيلتها، كونها باتت صنوها المغيب والحاضر معا! ومن هنا يتعمق التبئير للعمل من اجل الحفر في هذه الموضوعة الحساسة، فالشقيق القاتل يحظى بمكانة اجتماعية مرموقة، ومن ثم ينتمي لاحد الاحزاب الدينية، في اشارة رمزية ذكية لطبيعة الثقافة التي يراد لها ان تسود وتتكرس، فالقتل هنا ياتي رمزيا، وان كان حقيقة في الواقع .. وبذلك يكون الخلاص المنشود للبطلتين مشوها، ويأتي من خلال (الهجرة خارج البلاد) او الهرب منها! .. الرواية تبدأ من رسالة يتلقاها الطبيب من سفانة، وهي في منفاها الاختياري والقسري معا، بعد ان يساعدها ويسهل لها وشقيقتها عملية الهجرة، تحدثه فيها عن حياتها في الغربة التي تبدو غربة داخلية نفسية .. حياتها التي تركت معناها في بلدها، وتركت معها ذكرياتها التي يستعرضها الروائي بطريقة سرد لذيذة وغير متكلفة، ويتنقل بين الازمنة برشاقة، تجعل المتلقي يطارد الحدث بتشوق لمعرفة مصائر الابطال، بعد أن تتشابك الاحداث ببعضها لتنتهي الى مقولة نهائية، تتمثل بالانتصار للمرأة وسعيها للخلاص من المأزق التاريخي، الذي اسهم في صنعه الرجل، وكرسته الظروف التي أتت برؤى تعاند تلك التطلعات وتقمعها، ليكون النفي الرمزي الذي اختارته سفانة واختها، نفيا للقيم الانسانية ورثاء لحياة اقفلت ابوابها امام الجمال في زمن تعثرت فيه مشاريع التمدن والتحضر، كنتيجة لأسباب عديدة، يتركها سعد سعيد في ذمة القارئ النابه وهو يتجول بين ثنايا هذا العمل الروائي المميز ... الرواية صدرت عن دار شهريار.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة