01 Dec
01Dec


في شهر كانون الثاني من عام 1898 نشر إعلان في صحيفة المؤيد أن الصحيفة سوف تبدأ خلال الشهر القادم بنشر كتاب بعنوان"تحرير المرأة"للكاتب قاسم أمين"ولم تمض أيام حتى تلقت الصحيفة تهديداً ووعيداً أرسله عدد من رجال الدين يحذرون فيه من نشر الرذيلة وإشاعة الفجور من خلال كتابات تسيء للإسلام.. بعدها قررت الصحيفة أن تعتذر عن النشر، ولم يكن أمام المؤلف سوى المجازفة بنشر الكتاب على نفقته الخاصة ونجده يكتب في الصفحة الأولى :"سيقول قوم إن ما أنشره اليوم بدعة"...ولكن عند صدور الكتاب لم يُتهم بأنه بدعة، بل اعتبر صاحبه خارج على الدين ويجب القصاص منه.ولأن المؤلف كان يشعر أن كتابه سيجلب له المشاكل فقد كتب في المقدمة قائلاً :"هذه الحقيقة شغلت فكري مدة طويلة، كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها". 

كان قاسم أمين المولود في الأول من كانون الأول عام 1863، لعائلة من اصول كردية ، من أوائل المصريين الذين حصلوا على شهادة الحقوق، وهو في الثامنة عشرة من عمره، وبين عام 1881 العام الذي تخرج فيه من الجامعة، وبين صدور كتابه تحرير المرأة عام 1889 مر بأحداث كثيرة أبرزها حصوله على بعثة دراسية في فرنسا، ودخوله سلك القضاء وهو في الثانية والعشرين، والأهم تعرفه على جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وصداقته للزعيم المصري سعد زغلول.. في تلك السنوات كان ينشر المقالات في عدد من الصحف والمجلات، وبسبب جرأة البعض منها كان ينشرها باسماء مستعارة يخاطب بها المجتمعات العربية :"إني أدعوكل محب للحقيقة أن يبحث في حال النساء المصريات، وأنا على يقين أنه يصل وحده إلى النتيجة التي وصلت إليها، وهي ضرورة الإصلاح فيها.هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة، وكنت خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت عن كل ما يختلط بها من الخطأ، استولت على مكان عظيم من موضوع الفكر مني، وزاحمت غيرها، وتغلبت عليه، وصارت تشغلني بورودها، وتنبهني على مزاياها، وتذكرني بالحاجة إليها، فرأيت أن لامناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر". واعتبر قاسم أمين أن الموقف من قضية المرأة وإنسانيتها يعطي صورة واضحة عن مستوى تطور المجتمع وتطور الأخلاق والآداب في الأمة فقد قدم كتابه تحرير المرأة بالقول :"إن حال المرأة في الهيئة الاجتماعية يتبع حال الآداب في الأمة".وهو يؤكد إن الفكرة الاساسية التي يقوم عليها كتابه هي أن المجتمع المصري يعيش في دائرة من الانحطاط العام: انحطاط فكري وعقلي وخلقي واقتصادي وسياسي، أدى الى ضمور الحس الوطني والركون الى التخلف ولا يمكن للمجتمع أن يتقدم إلا بالخروج من هذه الدائرة، ويرى قاسم أمين أن الاستبداد والفساد الإداري والسياسي، هو الحاضنة التي تحافظ على الإنحطاط وتعيد انتاجه، كما أن الاستبداد ليس قاصراً على النظم السياسية والإدارية وإنما هو أحد الركائز الجوهرية في بنية الوعي والعقل والثقافة السائدة التي تصوغ للناس طرائق حياتهم وسلوكهم وتشكل عاداتهم وتقاليدهم، تلك العادات والتقاليد الموروثة التي يحافظون عليها الى درجة التقديس، ويرى أنه كسر لهذه الحلقة المفرغة، التي تنتج وتعيد إنتاج التخلف والإنحطاط، لابد من تغيير وضع المرأة في المجتمع، هذا المجتمع الذي ينظر إليها باعتبارها عورة وعندما تكبر يغلفها في حجابين الأول: نقاب سميك لا يظهر سوى عينيها والثاني بيت مغلق الأبواب لا تغادره إلا في حراسة الرجل، وهذا المجتمع الذي يسلب المرأة إرادتها واستقلالها ويغلق عليها الأبواب ويرفض تعليمها، كان يطلب منها أن تكون زوجة تطيع زوجها وأماً تربي أبناءها، ولأن القسمة كانت ظالمة فقد عجزت"المرأة – الأسيرة"التي دفنها المجتمع في غياهب الجهل عن صياغة مجتمع متحضر، فالزوجة المصرية كما يقول قاسم أمين (مهما كانت تعرف عن زوجها فإنها لا تعرف عنه سوى إنه طويل أو قصير، أبيض أو أسمر، أما قيمة زوجها العقلية وسيرته ودقة إحاسيسه وأعماله، وكل ماتصاغ منه شخصيته، ويصير به الى أن يكون محترماً محبوباً ممدوحاً في أمته فهذا لا يصل إلى عقلها شيء منه. وإن وصل فلا يؤثر في منزلته في نفسها وعلى هذا يكون أول من يجهل الزوج زوجته، فكيف يظن إنها تحبه، نرى نساءنا يمدحن رجالاً لا يقبل رجل شريف أن يمد لهم يده ليصافحهم، ويكرهن آخرين ممن نعتبر وجودهم شرفاً لنا، ذلك لأن المرأة الجاهلة تحكم على الرجال بقدر عقلها". ولكن من الذي وضع المرأة في هذه المنزلة الدنيا في المجتمع؟ يجيب قاسم أمين :"سلب الرجال ثقتهم من النساء واعتقدوا إنهن أعوان إبليس، فلا تسمع إلا ذماً لخصالهن، وتنقيصاً لعقلهن وتحذيراً من مكرهن،. هل صنعنا شيئاً لتحسين حال المرأة؟، هل قمنا بما فرضه علينا العقل والشرع من تربية نفسها وتهذيب أخلاقها وتثقيف عقلها؟ أيجوز أن نترك نساءنا في حالة لا تمتاز عن حالة الأنعام؟، أيصح أن يعيش النصف من أمتنا في ظلمات من الجهل، بعضها فوق بعض، لا يعرفن فيها شيئاً ممايمر حولهن؟ أليس بينهن أمهاتنا، وبناتنا، وأخواتنا وزوجاتنا؟".. ومن أخطر القضايا التي ناقشها قاسم أمين في كتاب تحرير المرأة مسألة الحجاب، صحيح إنه لم يكن ضد الحجاب التقليدي ولم يطالب بالغائه :"ربما يتوهم ناظر أنني أرى الآن رفع الحجاب بالمرة، لكن الحقيقة غير ذلك. فإنني لا أزال أدافع عن الحجاب واعتبره أصلاً من أصول الآداب التي يلزم التمسك به"لكنه يناقش ثلاثة أنواع من الحجاب ساهمت في تخلّف المرأة وأهدرت شخصيتها. أولها النقاب الذي لا يظهر من المرأة سوى عينيها ويمتد على جسدها مثل خيمة، ويخفي شخصيتها تماماً بحيث لا يمكن التعرف من خلاله على شخصية المرأة، ويرى قاسم أمين أن هذا النقاب ساهم في انتشار الرذيلة بحيث تستطيع المرأة الجاهلة أن تفعل من ورائه ماتشاء طالما أن شخصيتها غير معروفة، أما الحجاب الآخر فهو حجب النساء في البيوت، ومنعهن من الخروج أما الحجاب الثالث فهو حجاب السلوك والتصرفات بحيث لا تتصرف المرأة في شؤون حياتها إلا من خلال رجل وصي عليها فتظل قاصراً مدى حياتها.
*** 

ذات مساء من شهر نيسان وبعد مرور أسابيع قليلة على صدور كتاب"تحرير المرأة"، كان قاسم أمين عائداً إلى بيته، فوجد عدداً من الرجال يقفون بالقرب من الباب، توقع إن الأمر يتعلق باستشارة قانونية، وما أن اقترب من الرجال، حتى تقدم واحداً منهم وهو يقول له :
- قاسم بك جئت أسال عن السيدة زوجتك
- وبماذا تحتاجها
- ريدها أن تخرج معي في نزهة.
وقبل أن يرد قاسم أمين، بادر رجل آخر ألى القول :
- الست تدعو الى سفور المرأة واختلاطها بالرجال ومساواتها بهم
فيما تحدث آخر بعصبية :
- ألست أنت المنادي بخلع الحجاب. 

ولم تكن هذه الحادثة الوحيدة التي يتعرض لها قاسم أمين بعد صدور كتابه"تحرير المرأة"، فقد أفردت معظم الصحف المصرية صفحاتها للرد على كتابه وإتهمه البعض بأنه"زنديق، وكافر، متساهل في عرضه وشرفه".وطالب البعض بمحاكمته وحرق كتابه في الساحات العامة، وصدر قرار من دار المطبوعات تطالب بعدم إعادة طبع الكتاب وسحب النسخ المتبقية من المكتبات واكشاك بيع الكتب، وكتب محمد فريد وجدي يقول :"هل المرأة مساوية للرجل في سائر الحيثيات؟ فالجواب لا، وهل لدينا دليل حسي على هذا الجواب السلبي أصدق من وجود المرأة من ابتداء الخليقة للآن تحت سيطرة الرجل يوجهها كيفما يشاء، وإذا كانت المرأة مساوية للرجل من الجهة الجسمية والعقلية، فلماذا خضعت كل الإلوف المؤلفة من الأعوام لسلطان الرجل"، فيما أصدر الخديوي عباس قراراً بمنع قاسم أمين من العمل في دوائر الحكومة عقاباً على آرائه"الفاجرة"، ويفرد الزعيم المصري مصطفى كامل صفحات جريدته اللواء لأقسى حملة ضد كتاب قاسم أمين تشكك بوطنيته وبانتمائه للإسلام.ولم يقتصر الأمر على الصحف المصرية وحدها، بل انتقلت إلى الصحف والمجلات العربية..ففي العراق يهاجم محمد رضا الشبيبي دعوة قاسم أمين وخصوصاً في مسألة النقاب فيكتب : 

صوني جمالك بالبراقع، إنها
ستر الحسان ومظهر الحسنات
ولم يكد يصل كتاب قاسم أمين الى بغداد وتناقلته الأيدي وأخذ يطلع عليه الجمهور حتى ثارت ثائرة رجال الدين واسرع الشيخ"سعيد النقشبندي"يرد عليه برسالة نارية عنوانها"السيف البارق في عنق المارق"، وخيل للشاعر جميل صدقي الزهاوي أن الفرصة قد سنحت له لينشر أفكاره التحررية، فأخذ يروج لكتاب قاسم أمين، بل إنه نشر في جريدة المؤيد المصرية مقالة جاء فيها :"أجاز المسلمون أن يقسو الرجل فيطلق المرأة ويستبدلها بغيرها كسقط المتاع راداً الى حضنها أطفالها الذين هم نتائج شهوته.. وربما كانت المرأة الشرسة هي السبب لهذا الفراق... ولكن ما حيلة المرأة الوديعة اذا منيت برجل شرس الأخلاق؟.. لماذا لم يجز المسلمون أن تطلقه لتنجو من شراسته وقد قال تعالى في كتابه المبين بعد آية الطلاق (ولهن مثل الذي عليهن).. أشاعت بعض الصحف إن جماعة من النساء المظلومات شرعن يرتدن فراراً من معاشرة أزواجهن.. فلا يلومن المسلمون إلا انفسهم فهن مضطرات الى الردة، ما حيلة المضطر إلا ركوبها..". وبعد ان وصل امر المقال الى بغداد، طافت في الشوارع جماهير يتقدمها عدد من رجال الدين تطالب بعزل الزهاوي من وظيفته في مدرسة الحقوق، واتخاذ الاجراءات الشديدة ضده فنزل الوالي ناظم باشا عند رغبتها وعزله من مدرسة الحقوق.
في العام 1900 ينشر قاسم أمين كتابه الثاني"المرأة الجديدة"، وقد ضمنه حججاً وتوضيحات جديدة لارائه السابقة، وتحليلاً اجتماعياً لواقع المجتمعات الشرقية وموقع المرأة فيها، وقدم دراسة لتطور نضالات المرأة في العالم من أجل حقوقها وأكد في كتاب المرأة الجديدة أن الأوروبيين قبل عصر التنوير كانوا يرون رأينا في النساء :"النقص في الدين والعقل وقالوا فيهن ذوات الشعر الطويل والفكر القصير"، ثم ذكر أحوال المرأة الجديدة في أوروبا والتي حصلت على الكثير من الحقوق من خلال التعليم والاختلاط والمشاركة في العمل والمسؤولية.
في الثالث والعشرين من نيسان عام 1908 توفي قاسم أمين بالسكتة القلبية، وقبلها بأشهر كان قد تعرض الى هجمة جديدة قادها ضد رجال الدين بسبب مقال نشره في جريدة المؤيد طالب فيه بأن تأخذ المرأة مكانتها في مجال العمل وتقف الى جانب الرجل في بناء المجتمع الجديد..وقبل وفاته كان قد صدر ضده أربعين كتاباً اتهمه أصحابها بنشر الفساد والفجور والتآمر على البلاد. أربعون كتاباً كان أشهرها"الجليس الأنيس في التحذير عما في تحرير المراة من تدليس"وكتاب"السنّة والكتاب في حكم التربية الحجاب"وكتاب"الدفع المبين في الرد على قاسم أمين".في رثائه سيكتب أحمد لطفي السيد :"سوف يقف شخص واحد وسط هذا المجتمع، ليحاول نزع واحد من الحواجز..حاجز المرأة عن المجتمع". 

في مقدمة كتابه تحرير المراة يكتب قاسم امين :" اذا غلب الاستبداد على أمَّة لم يقف أثره في الأنفس عند ما هو في نفس الحاكم الأعلى، ولكنه يتَّصل منه بمَن حوله، ومنهم إلى مَن دونهم، وينفث روحه في كل قوي بالنسبة لكل ضعيف متى مكَّنته القوَّة من التحكُّم فيه، يسري ذلك في النفوس رضي الحاكم الأعلى أو لم يرضَ. كان من أثر هذه الحكومات الاستبدادية أن الرجل في قوته أخذ يحتقر المرأة في ضعفها ، وقد يكون من أسباب ذلك أن أوَّل أثر يظهر في الأمَّة المحكومة بالاستبداد هو فساد الأخلاق.
ويواصل دعوته الى التجديد وبثافكار التنوير فيكتب في كتابه " المراة الجديدة " :" نحن لا نكتب طمعا في أن ننال تصفيق الجهال وعامة الناس الذين إذا سمعوا كلام الله، وهو الفصيح لفظه، الجلي معناه، لا يفهمه إلا إذا جاء محرفا عن وضعه، منصرفا عن قصده، برأي شيخ هو أجهل الناس بدينه! ولا يحبون الوطن إلا إذا تمثل لأعينهم في صورة قبيحة، وأخلاق رثة، وعادات سخيفة! وإنما نكتب لأجل العلم، وعلى الخصوص للناشئة الحديثة التي هي مستودع أمانينا في المستقبل، فهي التي — بما اكتسبته من التربية العلمية الصحيحة — يمكنها أن تحتل مسألة المرأة المكان الذي تستحقه من العناية والبحث " . 

عاش قاسم امين في زمن كانت بوادر النهضة والتنوير تشع منه ، حيث يدور النقاش حول مستقبل بلدان العرب ، في زمن لم نعرف فيه عبارات التخوين والعمالة ورفض الاخر وقتله ، زمن عاشت فيه الافكار حرة دون وصاية من رجل دين ولا مطاردة من سلطة ترى فسها ظل الله على الارض . وفي ذكرى ميلاده نتذكر واحدا من رواد المدرسة الإصلاحية، وواحد من ابرز المصلحين البارزين في مدرسة الاستنارة واليقظة والتنوير في العالم العربي والاسلامي ، مفكر طالب بأن تكون الحرية في الاعتقاد والتعبير وبأن الاستبداد أصل كل فساد، وبأن المواعظ والخطب والوصايا والتحذيرات ليست بفاعلة شيئا ذا قيمة في إعلاء شأن الفضيلة والعدل . 



الكاتب الصحافي علي حسين

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة