الادب الساخر.. بين مبتكر، وماكر/ د كاظم المقدادي.. عرض لكتاب (العراق للبيع) للكاتب منهل الهاشمي
الادب الساخر.. بين مبتكر، وماكر/ د كاظم المقدادي.. عرض لكتاب (العراق للبيع) للكاتب منهل الهاشمي
06 Apr
06Apr
مجلة سماء الأمير العدد السابع نيسان 2023
في زمن غابت عنه قيم الابتكار، وترسخت فيه سيولة التكرار ، واختلطت فيه الاخبار وشيوع ثقافة المجاملة والانحدار.. نكاد لا نعثر على نص سردي اصيل.. لا في الادب الساخر ولا في الرواية، لتمسي كتابة المقالة والمقامة ضربا من الغواية.
ومن سوء حظ الكاتب منهل الهاشمي.. انه ظهر قبل عقد ونيف ، وسط هذا الركام من الزيف والحيف، والتنكيت والتبكيت، في مكان اغبر، و زمن اصفر.. زمن الانترنت، الذي حولناه بقدرة قادر الى ( عنتر- نت ) فاختلط الحابل بالنابل، وصار المثقف بأمرة الجاهل.. وامست السرقة الادبية حلالا، و الابداع احتيالا ، فابتعدنا عن كتابة نص مكتنز ومؤثر ورشيق، وتحولت الازمنة الادبية.. الى طاريء وطليق.
الكاتب منهل الهاشمي.. حاول على استحياء، اعادة القاريء الى الزمن الجميل، بيسر من دون عسر، زمن الكتابة التي تبهر ولا تبعر، والنص الذي يؤسر ولا يكسر.. زمن "المقامات البديعة" والاساليب الرشيقة، زمن الحريري الفنان، والهمذاني بديع الزمان، وعبد الحميد الكاتب صاحب اللغة والبيان. وجاء من بعدهم.. من سرد و ثرد، فنهل منهم من نهل، وراج بينهم وابتكر، وسار على نهجهم من جد وسهر.. فعادوا بنا الى محسناته البديعية، فتماهت مع زمانهم ومكانهم ومقامهم، فسرد الاقدمون سردا جميلا، وكتبوا لنا نصا سديدا، وابهرونا بالمحسنات اللغوية (السجع، والترادف، والجناس.. والطباق، والتورية، والاقتباس) فأعادوا لنا المقامات البغدادية، مبتكرة، لذيذة شهية، بريشتهم واساليبهم الفنية .وفي بغداد..
ينبري كاتب ساخر همام، كتب لنا بانتظام.. ليس على لسان " عيسى بن هشام" إنما بلسان كاتب له فطنة ومقام، يذكرنا باسلوب بديع الزمان الهمذاني، في القرن الفلاني، فوجدناه ينهل من فيض الاجداد، يوم كانت بغداد عاصمة الفكر الخلاق.. في دار المأمون، وبيت الحكمة، فاعاد لنا عظمة العصور السومرية ، والبابلية، والاكدية والآشورية.. وتوهجات"بلاد ما بين النهرين" وفلسفة الاغريق بنسختين، وشهد عصر الرشيد هارون، ارضا للسواد.. ظلال البساتين والخير، وليس بلاد الفقر والغير.. كما هو حالها اليوم، تغط بالنوم.. بشخير ابدي يثقب طبلة الأذن، كما تمخر السفن.
للأسف.. لم تعد بلادنا، بلاد مابين النهرين.. إنها وبأمتياز بلاد ما "بين النهبين".
ظهر الكاتب منهل الهاشمي في بيئة سياسية، زاخرة في المواقف والمشاهد الهزلية، فلم يعد احد يقرأ كتابا في السخرية .. لكنه اندفع ساخرا و وثق جهده كاتبا، وبحث عن كل من ابدع في كتابة الاعمدة الساخرة من برناردشو الى احمد رجب، ومن محمود السعدني الغلبان، الى داود الفرحان .تسلح باللغة العربية وآدابها، والبلاغة وجذورها، والبديع والمعاني.. باحثا عن الحريري والهمذاني.. الى ان توقف في محطته الاخيرة، فقرأ وتأثر باسلوب وتجربة كاتب السطور ومقاماته " المقدادية" كما اشار في مقدمة كتابه الزاهي، فكان وفياً لاساتذته، متأثرا باساليبهم دونما تقليد، سائراً على طريق الابتكار والتجديد، مقتربا من فلسفة المقامة البغدادية، مستثمرا محسناتها البديعية.
نذكر.. ان الكاتب الهاشمي ، نجح في تقديم خلطة فاخرة ساحرة، وهو يخوض تجربته الادبية الساخرة، وكانت بحق طازجة باذخة ، فأغنى تجربته واستوعب، و اضاف واستعذب ، ومضى في تطوير وتحديث منجزه، واشتغالاته، دون نكران فضل الذين سبقوه.. غير متعال على الذين علموه، فكان ابنا بارا، وتلميذا مباركا. مارس الهاشمي فن المقامة، وفهم مغزى سلاسة الجملة باستقامة.. على وهج ما سطره المبدعون وزيادة.
المقامة.. كما يفسرها المختصون.. تعني المجلس والجماعة، ويقترب مضمونها من الموعظة، وهي اغنى من المحاضرة والخطابة. كان بديع الزمان الهمذاني.. اول من ابتكرها، وطورها، وزاد فيها من ألفاظ ومفردات وجناس ومحسنات، من دون هنات ولاهفوات، فكانت لا تخلو من الوصف والسخرية والفكاهة والتورية، ومن البيان والتبيين.. والشعر والنباهة، وهي بمثابة الحبل السري للجنين .سجعها مقبول، غير معلول، يحتمل المتانة وحسن الاستخدام.. متونها مفعلة على الدوام.
وهكذا وجدنا الكاتب الهاشمي المنهل مثل " المنهل" قاموسا.. تتنزل عليه المفردات كالمطر، وتتراصف عنده النصوص كأخشاب المعبر. في مقالة (ماجكتور) يصف لنا بسخرية هادفة.. فيضعنا امام مسرحية هزلية جامعة مانعةً.. انها المقامة الواصفة الناقدة، تغوص وتعري المناقشات العلمية، في نظام التفاهة داخل المعاهد والكليات الجامعية.. وفعل مثلها وزاد في مقالة " نعمة النسوان" وهي نعمة النسيان.. شرح وفسر، واستغفر، حتى التقط اجمل العبارات الساخرة الماكرة، في سلوك وغيرة النسوان، ولا تفهموه بالغلط، لأنه الناقد الفكه الفطن.. والجاد المتمكن من ادواته في معنى الوصف، ونقر الدف، وهز الكتف.
ومن اجمل مقالاته (ماضاع حق وراءه ام طالب)، إنها مقامة مفصلة على حجم حقيقة "التعويضات" الحكومية.. بطلتها سيدة جنوبية، تصول وتجول، وتفضح المرتشين في الدوائر والمستطيلات.. على الرغم من بساطة تعليمها، وضعف حيلتها .وهكذا هو الحال في معظم قصص كتابه الاثير (العراق .. للبيع) الزاخر بالقصص والمقامات، ففي مقامة "هكذا تكلم قاسمشت" تناول معضلة الكهرباء باسلوب شيق وحر.. وجميل بتهكمه المكر. وفي " قلوب فائرة" يكشف لنا اسرار الخيانات الزوجية، وفي " رومانسيات زوجية" يختزل فرص التعارف الاولية، بين الزوج والزوجة، بحرق المسافات، وإلغاء الحواجز والعقبات، لينتهي العرس "بدوشگ وبطانية"!؟ اما اطفال هذا الزواج "السعيد" فقد افترشوا الطرقات، وتوزعوا بين الساحات ، بانتظار بركات السيد عطية. حتى في ورطة "الانتماء الحزبي" لم تسلم المقامة من فيض وفطنة قلمه، وسطوة نقده.. ففي "هوسة حداثوية " استمتعنا بقراءة مقامة كوميدية عن الحياة الحزبية، بشؤونها وشجونها.. بلونها الزيتوني،وحكايات الزنكلوني .في جل مقامات الهاشمي، التي سطرها على صفحات الجرائد البغدادية اليومية ( الزمان والدستور، والبينة الجديدة ، والفرات) كانت جميعها اشبه بمسلسل يعالج ويصف منظومة المشاهدات والحوادث والحوارات اليومية، تقرأ وتحلل بوعي الوقائع العراقية.قلت..
إن كل عمل ابداعي بحاجة الى توصيف وتصنيف.. وأجد ان الكاتب منهل الهاشمي، قد حلق منذ سطوره الاولى، بفضاء الادب الساخر، منجذبا الى "فن المقامات البغدادية" التي ابتكرها احمد بن الحسين الهمذاني في القرن الرابع الهجري.. ولم تكن مقالة صحفية، انما هي مقامات تعتمد على المحسنات البديعية التي تجذب الجلاس.. من السجع والترادف والطباق والتورية والجناس. لكن.. يؤخذ على الكاتب الهاشمي، انه كثيرا ما يستخدم مهاراته اللغوية والبلاغية بافراط وفي غير محلها، فيثقلها اطنابا، ويحيلها اسهابا.. فتفتقد المحسنات وظيفتها، وتذهب ريحها.. اما في توظيف السجع، فقد بالغ مخالفة، ونال من التورية مكابرة.. وفيما بقي من محسناته البلاغية، اراه وقد زادها عقلانية، دون ان يخلع عنها العقال.. ولا الكوفية..